صور من معركة التحرير في بني معوش شهادة عبد الرحمان الشابي
الخميس يناير 29, 2009 9:58 pm
وجد الفتى عبد الرحمان الشابي نفسه مقحما في النشاط الثوري بقرية بني معوش (بجاية) وضواحيها، بفضل أخيه محمد الذي التحق بنظام جبهة التحرير الوطني عام 1955 وهو في الثانية والعشرين من العمر.
كان عبد الرحمان (16 سنة) قد ترك الدراسة لظروف خاصة، بعد أن ظفر بالشهادة الابتدائية من مدرسة بناها أهل القرية بمساعدة جمعية العلماء، عكس شقيقه الكبير محمد الذي لم تكن له نفس الفرصة رغم شديد رغبته في التعلم..
كانت مهام عبد الرحمان في البداية بسيطة، تقتصر على فتح الباب عند عودة أخيه في ساعة متأخرة من الليل، خفية عن والده الذي كان حريصا على منعه من الخروج ليلا. وبعد انتشار رسالة التحرير بالناحية، اكتشف الأب سر ولديه ففرح لذلك، وشجعهما على المضي في النضال، أسوة بعامة أهل القرية الذين تسابق أكثرهم للحاق بنظام جبهة وجيش التحرير.
أصبح محمد لذلك ينشط بحرية رفقة عدد من شباب القرية الذين سجلوا مثلا صفحات من البطولة والتضحية. ومع تطور النشاط الثوري بالناحية، سارع جيش الاحتلال بإقامة مركز له على مشارف القرية، مما أتاح لبعض الخونة أن يظهروا رؤوسهم. هذا الوضع الجديد بات يفرض على الثوار مزيدا من السرية والحذر.. ما جعل محمد يكلف شقيقه عبد الرحمان بدور المسبل الصغير الذي يسهر على استمرار علاقة أخيه وجماعته بتنظيم الجبهة في الناحية، فضلا على المساهمة في جمع الاشتراكات، وتوزيع المنح على عائلات الشهداء، وتموين الثوار، ونقل البريد والأخبار...
وفي ربيع 1957، شهد سفح جبل بني ورتيلان معركة عنيفة، غنم خلالها جيش التحرير كمية من الأسلحة، وتمكّن من أسر تسعة جنود من بينهم ضابط عدا القتلى والجرحى.. لكن عقب المعركة ضل فوج من المجاهدين طريق الانسحاب فوقع في حصار محكم للعدو، وكان من بين المحاصرين مجاهد يحمل رشاشا ثقيلا هو الوحيد من نوعه بالناحية.
بدا للضابط الفرنسي أن يستولي على هذه القطعة، ولو كلفه ذلك سقوط مئة من جنوده.. إلا أن صاحبها استمات في موقعه وصمد رفقة رفاقه حتى الساعة الثانية فجرا، حين تمكّن من اختراق الحصار ناجيا بنفسه وبرشاشه.
كان أمام صاحب الرشاش ـ المرفوق بثلاثة مجاهدين وأحد الجرحى ـ منفذ وحيد للخلاص، يؤدي إلى قرية بني معوش، لكنه يمر إجباريا بالقرب من مركز جيش الاحتلال.. ولحسن حظ هؤلاء الناجين ـ الذين خلفوا في الاشتباك شهيدين وجريحا ـ أن صادفوا في انسحابهم المسبل الشاب عبد الرحمان الذي آواهم في البيت العائلي بعض الوقت وقدّم لهم ما تيسر من الطعام.. قبل أن يتوجه بهم إلى مكان أكثر أمانا: مغارة في الجبل المجاور، اتخذ منها شقيقه عيادة لمعالجة الجرحى ومخزنا للذخيرة..
تقع المغارة على نحو كلم واحد من البيت، ولا تفصلها عن مكان الحصار سوى مياه الوادي. وعند النزول باتجاه الوادي أحس المجاهدون الأربعة أنهم يسيرون على نفس الطريق الذي صعدوا منه، فدب فيهم الشك وتوجسوا خيفة من الدليل الشاب الذي ربما يريد تسليمهم إلى الجيش الفرنسي!
حاول عبد الرحمان إقناعهم بأنه طريق الخلاص الوحيد لكن دون جدوى.. حتى إن المجاهد عثمان بالعزوف تقدم إليه برشاشه قائلا: ''سر أمامي لاستطلاع المغارة أولا، على أن يبقى الثلاثة الآخرون في الانتظار هنا.. واعلم أنه إذا ما بدر منك أي أمر مريب فسأقضي عليك قبل أن أسقط!''.
رفض عبد الرحمان هذا العرض، لأنه لا يمكن أن يضمن إن كان الطريق آمنا، رغم ملاحظته في النهار - أثناء الاشتباك- أن المغارة كانت خارج طوق الحصار، ومعرفته على سبيل التجربة أن الجنود الفرنسيون لا يتحركون ليلا في مثل هذا المكان، واقترح عليهم بدل ذلك أحد أمرين:
- أن يواصلوا السير معا نحو المغارة مع احتمال مصادفة العدو في الطريق، وفي هذه الحالة سيظل معهم مهما كانت الأخطار، حتى يرشدهم إلى الأماكن التي يمكن الاحتماء بها عند الضرورة.
- أن يتركهم وشأنهم في عين المكان ويعود إلى بيته!
ساد الصمت عقب هذا الاختيار الصعب، تبادل المجاهدون أثناءه نظرات وإيماءات لاسيما ما بدر منها عن عثمان صاحب القطعة الجماعية الثمينة الذي كان يبدو مهموما بالعمل على إنقاذها مهما كان الثمن...
ووقف عبد الرحمن بينهم والدموع تنهمر من عينيه، لهذا الشك المجحف الذي يضاعف من آلام ما كان يحسه من خوف وبرد...
وما لبـث الصمـت أن انفـرج عـن حـل وسـط:
أن يسير عبد الرحمان رفقة أحد الجنود لاستطلاع الطريق، بينما يتبعهم الثلاثة الباقون ومعهم الجريح على مسافة معينة، ولتجديد ثقة الجماعة في دليلهم سلّموه بندقية أحد الشهداء..
وصل بقية الفوج إلى المغارة بسلام... وهناك ودّعهم الدليل عائدا إلى منزله بالقرية قبل الفجر، حيث وجد والدته بانتظاره... بعد أن أخذ عبد الرحمان قسطا من النوم نهض لاستئناف مهمته: مراقبة تحركات العدو وتبليغ شقيقه محمد والمسؤولين في الناحية بنجاة بقية الفوج وسلامة الرشاش الثقيل الذي بحوزتهم...
وفي ذات اللحظة، وصلت عجوز مبعوثة من طرف الضابط أحمد فضال (حميمي)، تسأل عن عبد الرحمان ليخبرها بما حدث البارحة... لكن أنكر في البداية معرفته لحميمي وعلاقته بما حدث، وبعد جهد جهيد من العجوز أباح لها بما يعرف، فعادت أدراجها مستبشرة...
أما شقيقه محمد، فقد استغل معرفته بالميدان ليتسلل إلى دائرة الحصار ويتمكّن من إنقاذ أحد الجرحى والعودة به إلى مركز الثوار.. وفي الليلة الموالية بعد انسحاب الجيش الفرنسي، نزل محمد رفقة عدد من الجنود بالمنزل العائلي، حيث تناولوا طعام العشاء وأصلحوا رشاشا معطوبا قبل التحاقهم ببقية أفراد الفصيلة. بعد أيام قليلة عاد الجيش الفرنسي ليحاصر قرية بني معوش... وقد قبض أحد جنوده هذه المرة على عبد الرحمان وقاده إلى إحدى حجرات المدرسة التي دمرتها الطائرات(*).. وهناك قام بصفعه عدة مرات، قبل أن يتدخل الضابط الذي تظاهر بمعاتبة الجندي، ويختلي بعبد الرحمان للحصول على بعض المعلومات.. بواسطة الملاطفة الخادعة والدعابة الماكرة والابتسامة المنافقة.. ومن الأسئلة التي وجهها الضابط: ''أين أخفيت الفلافة''؟
''من يدفع لك الاشتراك''؟ ويضيف الضابط مطمئنا: تحدث! لا خوف عليك! أنت صغير!
كان جواب الدليل الشاب بواسطة ''الفومي'' المترجم: لا علم لي بشيء. ويتابع الضابط خطابه ''نحن هنا لندافع عنكم ونحميكم من الفلافة، لا شك أنك تفعل ذلك خوفا من أخيك محمد، قل لنا أين هو، ومتى يأتي إلى البيت لنقبض عليه فيستريح الجميع''.
يؤكد عبد الرحمان مرة أخرى أن لا علم له بشيء، فيتركه الضابط لصغر سنه ناصحا إياه بكل دهاء أن يعمل بنصيحته الثمينة!
بعد فترة وجيزة، حل بالناحية ضابط أكثر قساوة وجبروتا، فحاصر القرية واعتقل عددا من المدنيين الأبرياء، بعضهم أمر بحفر قبورهم بأيديهم ليدفنوا فيها، ومنهم من نقل إلى مكان ما ولم يظهر له أثر بعد ذلك، وأجبر البعض على حمل السلاح مع العدو، ففر به ليلتحق بالثوار في الجبال.
نجا عبد الرحمان هذه المرة من الاعتقال بمساعدة حركي تعاون مع المجاهدين، واختفى بالمركز (المغارة) طيلة شهر جويلية تقريبا. كان يتردد خلاله على البيت ليلا للتزود بالمؤونة، والاتصال ببعض الأصدقاء الذين يقدمون له يد المساعدة، كما كان يخرج أحيانا لأداء بعض المهام..
كانت المغارة بمثابة مركز وعيادة للجرحى في نفس الوقت، تقع في ثغرة بالجبل علوّها نحو مئة متر تطل على ضفة الوادي، وتتسع لفوج أو أكثر من المجاهدين بين سليم وجريح..
ذات ليلة، سهر من كان بها من الثوار حتى ساعة متأخرة من الليل، ربما احتفاء بقدوم محمد،وقد أصبحوا لذلك نائمين حتى منتصف النهار، وعندما استيقظوا كان كل شيء يبدو عاديا، وخرج محمد بعد تناول القهوة لاستطلاع محيط المركز كالمعتاد، وما هي سوى لحظات حتى كاد يصطدم بجندي فرنسي قفز من على صخرة بالقرب منه! قاطعا عليه طريق العودة إلى المغارة لتنبيه رفاقه.. وقد اضطره ذلك إلى الاختفاء، ومراقبة الموقف المتمثل في محاصرة المركز منذ الصباح الباكر...
كان الجنود الفرنسيون يلازمون الصمت، ويتنصّتون على ما يجري من حديث داخل المغارة تحفزا لأسر كل من يبادر بالخروج.
بعد لحظات، خرج عبد الرحمان عقب أخيه محمد الذي حاول تنبيهه ببعض الإشارات لكن دون جدوى... إلى أن وصل إليه دون أي رد من الجنود الفرنسيين.
وخرج ثالث بنفس عدم الاكتراث، لكن الرابع فهم الإشارات جيدا، فعاد ليخبر بقية الرفاق، داخل المغارة بالخطر المحدق بهم.
خيّم الصمت فجأة على المركز، فأدرك ضابط الوحدة المحاصرة، أن الثوار تفطنوا للأمر، فبدأ في توجيه نداءات إليهم يدعوهم إلى تسليم أنفسهم، منذرا إياهم بالموت حرقا داخل المغارة إذا لم يفعلوا. ولمزيد من الترهيب، جاء بمعتقل مدني (يدعى موسى) وأمر بتعذيبه فكان يصرخ ألما.. واستمر الإنذار والتعذيب دون أن يقدم الجنود الفرنسيون على اقتحام المغارة...
ومع اقتراب الليل، أمر الضابط بالهجوم على المغارة بالقنابل والغازات لكن دون جدوى.. لقد أخطأت الكثير من القنابل هدفها نظرا لمناعة المركز، رغم تكرار العملية مع تكرار الإنذارات في نفس الوقت...
استمر الوضع على هذا النحو إلى أن غربت الشمس، وبدأ الليل يخيّم على الناحية ومعه الصمت والهدوء.. استعاد المحاصرون أنفاسهم متسائلين: هل انسحب العدو؟ وهل يمكن تلغيم مدخل المغارة والممر المؤدي إليها؟ أم إن الحصار المضروب حولهم سيستمر في اليوم الموالي وربما لأيام أخرى؟
لم تكن الوحدة الفرنسية كبيرة العدد ففضلت العافية، وسط محيط طبيعي مناوئ يضاعف الليل من خطورته دون شك... وما لبث محمد أن تأكد من انسحاب الوحدة، عندما تحرك من موقعه لاستطلاع الوضع... وقد سارع بإشعار رفاقه الذين تمكنوا من مغادرة المركز جميعا سالمين..
نجا الدليل عبد الرحمان بدوره لينتقل إلى مواقع أخرى لاستئناف نشاطه، حيث تنتظره صعوبات وتضحيات أخرى في سبيل الوطن.
كان عبد الرحمان (16 سنة) قد ترك الدراسة لظروف خاصة، بعد أن ظفر بالشهادة الابتدائية من مدرسة بناها أهل القرية بمساعدة جمعية العلماء، عكس شقيقه الكبير محمد الذي لم تكن له نفس الفرصة رغم شديد رغبته في التعلم..
كانت مهام عبد الرحمان في البداية بسيطة، تقتصر على فتح الباب عند عودة أخيه في ساعة متأخرة من الليل، خفية عن والده الذي كان حريصا على منعه من الخروج ليلا. وبعد انتشار رسالة التحرير بالناحية، اكتشف الأب سر ولديه ففرح لذلك، وشجعهما على المضي في النضال، أسوة بعامة أهل القرية الذين تسابق أكثرهم للحاق بنظام جبهة وجيش التحرير.
أصبح محمد لذلك ينشط بحرية رفقة عدد من شباب القرية الذين سجلوا مثلا صفحات من البطولة والتضحية. ومع تطور النشاط الثوري بالناحية، سارع جيش الاحتلال بإقامة مركز له على مشارف القرية، مما أتاح لبعض الخونة أن يظهروا رؤوسهم. هذا الوضع الجديد بات يفرض على الثوار مزيدا من السرية والحذر.. ما جعل محمد يكلف شقيقه عبد الرحمان بدور المسبل الصغير الذي يسهر على استمرار علاقة أخيه وجماعته بتنظيم الجبهة في الناحية، فضلا على المساهمة في جمع الاشتراكات، وتوزيع المنح على عائلات الشهداء، وتموين الثوار، ونقل البريد والأخبار...
وفي ربيع 1957، شهد سفح جبل بني ورتيلان معركة عنيفة، غنم خلالها جيش التحرير كمية من الأسلحة، وتمكّن من أسر تسعة جنود من بينهم ضابط عدا القتلى والجرحى.. لكن عقب المعركة ضل فوج من المجاهدين طريق الانسحاب فوقع في حصار محكم للعدو، وكان من بين المحاصرين مجاهد يحمل رشاشا ثقيلا هو الوحيد من نوعه بالناحية.
بدا للضابط الفرنسي أن يستولي على هذه القطعة، ولو كلفه ذلك سقوط مئة من جنوده.. إلا أن صاحبها استمات في موقعه وصمد رفقة رفاقه حتى الساعة الثانية فجرا، حين تمكّن من اختراق الحصار ناجيا بنفسه وبرشاشه.
كان أمام صاحب الرشاش ـ المرفوق بثلاثة مجاهدين وأحد الجرحى ـ منفذ وحيد للخلاص، يؤدي إلى قرية بني معوش، لكنه يمر إجباريا بالقرب من مركز جيش الاحتلال.. ولحسن حظ هؤلاء الناجين ـ الذين خلفوا في الاشتباك شهيدين وجريحا ـ أن صادفوا في انسحابهم المسبل الشاب عبد الرحمان الذي آواهم في البيت العائلي بعض الوقت وقدّم لهم ما تيسر من الطعام.. قبل أن يتوجه بهم إلى مكان أكثر أمانا: مغارة في الجبل المجاور، اتخذ منها شقيقه عيادة لمعالجة الجرحى ومخزنا للذخيرة..
تقع المغارة على نحو كلم واحد من البيت، ولا تفصلها عن مكان الحصار سوى مياه الوادي. وعند النزول باتجاه الوادي أحس المجاهدون الأربعة أنهم يسيرون على نفس الطريق الذي صعدوا منه، فدب فيهم الشك وتوجسوا خيفة من الدليل الشاب الذي ربما يريد تسليمهم إلى الجيش الفرنسي!
حاول عبد الرحمان إقناعهم بأنه طريق الخلاص الوحيد لكن دون جدوى.. حتى إن المجاهد عثمان بالعزوف تقدم إليه برشاشه قائلا: ''سر أمامي لاستطلاع المغارة أولا، على أن يبقى الثلاثة الآخرون في الانتظار هنا.. واعلم أنه إذا ما بدر منك أي أمر مريب فسأقضي عليك قبل أن أسقط!''.
رفض عبد الرحمان هذا العرض، لأنه لا يمكن أن يضمن إن كان الطريق آمنا، رغم ملاحظته في النهار - أثناء الاشتباك- أن المغارة كانت خارج طوق الحصار، ومعرفته على سبيل التجربة أن الجنود الفرنسيون لا يتحركون ليلا في مثل هذا المكان، واقترح عليهم بدل ذلك أحد أمرين:
- أن يواصلوا السير معا نحو المغارة مع احتمال مصادفة العدو في الطريق، وفي هذه الحالة سيظل معهم مهما كانت الأخطار، حتى يرشدهم إلى الأماكن التي يمكن الاحتماء بها عند الضرورة.
- أن يتركهم وشأنهم في عين المكان ويعود إلى بيته!
ساد الصمت عقب هذا الاختيار الصعب، تبادل المجاهدون أثناءه نظرات وإيماءات لاسيما ما بدر منها عن عثمان صاحب القطعة الجماعية الثمينة الذي كان يبدو مهموما بالعمل على إنقاذها مهما كان الثمن...
ووقف عبد الرحمن بينهم والدموع تنهمر من عينيه، لهذا الشك المجحف الذي يضاعف من آلام ما كان يحسه من خوف وبرد...
وما لبـث الصمـت أن انفـرج عـن حـل وسـط:
أن يسير عبد الرحمان رفقة أحد الجنود لاستطلاع الطريق، بينما يتبعهم الثلاثة الباقون ومعهم الجريح على مسافة معينة، ولتجديد ثقة الجماعة في دليلهم سلّموه بندقية أحد الشهداء..
وصل بقية الفوج إلى المغارة بسلام... وهناك ودّعهم الدليل عائدا إلى منزله بالقرية قبل الفجر، حيث وجد والدته بانتظاره... بعد أن أخذ عبد الرحمان قسطا من النوم نهض لاستئناف مهمته: مراقبة تحركات العدو وتبليغ شقيقه محمد والمسؤولين في الناحية بنجاة بقية الفوج وسلامة الرشاش الثقيل الذي بحوزتهم...
وفي ذات اللحظة، وصلت عجوز مبعوثة من طرف الضابط أحمد فضال (حميمي)، تسأل عن عبد الرحمان ليخبرها بما حدث البارحة... لكن أنكر في البداية معرفته لحميمي وعلاقته بما حدث، وبعد جهد جهيد من العجوز أباح لها بما يعرف، فعادت أدراجها مستبشرة...
أما شقيقه محمد، فقد استغل معرفته بالميدان ليتسلل إلى دائرة الحصار ويتمكّن من إنقاذ أحد الجرحى والعودة به إلى مركز الثوار.. وفي الليلة الموالية بعد انسحاب الجيش الفرنسي، نزل محمد رفقة عدد من الجنود بالمنزل العائلي، حيث تناولوا طعام العشاء وأصلحوا رشاشا معطوبا قبل التحاقهم ببقية أفراد الفصيلة. بعد أيام قليلة عاد الجيش الفرنسي ليحاصر قرية بني معوش... وقد قبض أحد جنوده هذه المرة على عبد الرحمان وقاده إلى إحدى حجرات المدرسة التي دمرتها الطائرات(*).. وهناك قام بصفعه عدة مرات، قبل أن يتدخل الضابط الذي تظاهر بمعاتبة الجندي، ويختلي بعبد الرحمان للحصول على بعض المعلومات.. بواسطة الملاطفة الخادعة والدعابة الماكرة والابتسامة المنافقة.. ومن الأسئلة التي وجهها الضابط: ''أين أخفيت الفلافة''؟
''من يدفع لك الاشتراك''؟ ويضيف الضابط مطمئنا: تحدث! لا خوف عليك! أنت صغير!
كان جواب الدليل الشاب بواسطة ''الفومي'' المترجم: لا علم لي بشيء. ويتابع الضابط خطابه ''نحن هنا لندافع عنكم ونحميكم من الفلافة، لا شك أنك تفعل ذلك خوفا من أخيك محمد، قل لنا أين هو، ومتى يأتي إلى البيت لنقبض عليه فيستريح الجميع''.
يؤكد عبد الرحمان مرة أخرى أن لا علم له بشيء، فيتركه الضابط لصغر سنه ناصحا إياه بكل دهاء أن يعمل بنصيحته الثمينة!
بعد فترة وجيزة، حل بالناحية ضابط أكثر قساوة وجبروتا، فحاصر القرية واعتقل عددا من المدنيين الأبرياء، بعضهم أمر بحفر قبورهم بأيديهم ليدفنوا فيها، ومنهم من نقل إلى مكان ما ولم يظهر له أثر بعد ذلك، وأجبر البعض على حمل السلاح مع العدو، ففر به ليلتحق بالثوار في الجبال.
نجا عبد الرحمان هذه المرة من الاعتقال بمساعدة حركي تعاون مع المجاهدين، واختفى بالمركز (المغارة) طيلة شهر جويلية تقريبا. كان يتردد خلاله على البيت ليلا للتزود بالمؤونة، والاتصال ببعض الأصدقاء الذين يقدمون له يد المساعدة، كما كان يخرج أحيانا لأداء بعض المهام..
كانت المغارة بمثابة مركز وعيادة للجرحى في نفس الوقت، تقع في ثغرة بالجبل علوّها نحو مئة متر تطل على ضفة الوادي، وتتسع لفوج أو أكثر من المجاهدين بين سليم وجريح..
ذات ليلة، سهر من كان بها من الثوار حتى ساعة متأخرة من الليل، ربما احتفاء بقدوم محمد،وقد أصبحوا لذلك نائمين حتى منتصف النهار، وعندما استيقظوا كان كل شيء يبدو عاديا، وخرج محمد بعد تناول القهوة لاستطلاع محيط المركز كالمعتاد، وما هي سوى لحظات حتى كاد يصطدم بجندي فرنسي قفز من على صخرة بالقرب منه! قاطعا عليه طريق العودة إلى المغارة لتنبيه رفاقه.. وقد اضطره ذلك إلى الاختفاء، ومراقبة الموقف المتمثل في محاصرة المركز منذ الصباح الباكر...
كان الجنود الفرنسيون يلازمون الصمت، ويتنصّتون على ما يجري من حديث داخل المغارة تحفزا لأسر كل من يبادر بالخروج.
بعد لحظات، خرج عبد الرحمان عقب أخيه محمد الذي حاول تنبيهه ببعض الإشارات لكن دون جدوى... إلى أن وصل إليه دون أي رد من الجنود الفرنسيين.
وخرج ثالث بنفس عدم الاكتراث، لكن الرابع فهم الإشارات جيدا، فعاد ليخبر بقية الرفاق، داخل المغارة بالخطر المحدق بهم.
خيّم الصمت فجأة على المركز، فأدرك ضابط الوحدة المحاصرة، أن الثوار تفطنوا للأمر، فبدأ في توجيه نداءات إليهم يدعوهم إلى تسليم أنفسهم، منذرا إياهم بالموت حرقا داخل المغارة إذا لم يفعلوا. ولمزيد من الترهيب، جاء بمعتقل مدني (يدعى موسى) وأمر بتعذيبه فكان يصرخ ألما.. واستمر الإنذار والتعذيب دون أن يقدم الجنود الفرنسيون على اقتحام المغارة...
ومع اقتراب الليل، أمر الضابط بالهجوم على المغارة بالقنابل والغازات لكن دون جدوى.. لقد أخطأت الكثير من القنابل هدفها نظرا لمناعة المركز، رغم تكرار العملية مع تكرار الإنذارات في نفس الوقت...
استمر الوضع على هذا النحو إلى أن غربت الشمس، وبدأ الليل يخيّم على الناحية ومعه الصمت والهدوء.. استعاد المحاصرون أنفاسهم متسائلين: هل انسحب العدو؟ وهل يمكن تلغيم مدخل المغارة والممر المؤدي إليها؟ أم إن الحصار المضروب حولهم سيستمر في اليوم الموالي وربما لأيام أخرى؟
لم تكن الوحدة الفرنسية كبيرة العدد ففضلت العافية، وسط محيط طبيعي مناوئ يضاعف الليل من خطورته دون شك... وما لبث محمد أن تأكد من انسحاب الوحدة، عندما تحرك من موقعه لاستطلاع الوضع... وقد سارع بإشعار رفاقه الذين تمكنوا من مغادرة المركز جميعا سالمين..
نجا الدليل عبد الرحمان بدوره لينتقل إلى مواقع أخرى لاستئناف نشاطه، حيث تنتظره صعوبات وتضحيات أخرى في سبيل الوطن.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى