مظاهرالدلالة الصوتية
الثلاثاء يناير 13, 2009 10:24 pm
انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب ، وتوهج العبارة في منظار حياتهم ، وحدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله ، وتناغم الحروف في تركيبه ، وتعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه ، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات ، وتراكيب البيان متلائمة الأصوات ، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها ، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه ، ومع دلالته السمعية من وجه آخر ، فالذي يستلذه السمع ، وتسيغه النفس ، وتقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة والرقة ، والذي يشرأب له العنق ، وتتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر والشدة ، وهنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً وأيجاباً .
وبيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها ، والتي كونت كلمة معين في النص ، وبين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى ؛ وتتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً ، رقةً أو خشونة ، حتى تدرك بين هذا وذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة ، أو إذكاء الحفيظة ، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية ، ويستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً ، أو بتناغم الكلمة وحدها ، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه .
إن إيقاع اللفظ المفرد ، وتناغم الكلمة الواحدة ، عبارة عن جرس
موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن ، أو أثر عند المتلقي ، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية ، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية : « التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها » (1) . فتوحي بأثر موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض ، ويستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته ، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة : الألم ، البهجة ، اليأس ، الرجاء ، الرغبة ، الرهبة ، الوعد ، الوعيد ، الانذار ، التوقع ، الترصد ، التلبث . . . إلخ .
ولا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة ، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة ، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه ، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ وإن اتحدا بالمعنى ، لها استقلاليتها الصوتية ، إما في الصدى المؤثر ، وإما في البعد الصوتي الخاص ، وإما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى ، وإما بإقبال العاطفة ، وإما بريادة التوقع ، فهي حيناً تصك السمع ، وحيناً تهيء النفس ، وحيناً تضفي صيغة التأثر : فزعاً من شيء ، أو توجهاً لشيء ، أو طمعاً في شيء ؛ وهكذا .
هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ ، وهي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة ، تكونت من حروف مختارة ، فشكلت أصواتاً مختارة ، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى ، ومجالات عديدة ، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس والنغم والصدى والإيقاع .
قال الخطابي ( ت : 383 ـ 388 هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة : « لفظ حاصل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ، ولا أجزل ، ولا أعذب من ألفاظه » (2) .
____________
(1) إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : 46 .
(2) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : 27 .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى